توحد العيش والكتابة- لحظات حميمة بين الشتاء والوداع

المؤلف: فؤاد مصطفى عزب08.09.2025
توحد العيش والكتابة- لحظات حميمة بين الشتاء والوداع

في هذا اليوم، تماهى في أعماقي معنى الوجود والكتابة؛ لا شيء خارج دائرة اهتمامي إلا وأتوق لأن يتحول إلى كلمات أخطها لكم. بالأمس، تجولنا معًا في الليل كصحبة، في ظلمة مزدانة بهلال نحيل كالقمر، كان نور القمر قريبا وضياؤه كقطرة حليب مضيئة قبل أن نخلد إلى النوم، تبادلنا ذكريات عذبة عن أيام الدراسة والعمل، ثم عطسنا من شدة البرد وغططنا في نوم عميق بمنزلي، مستمتعين بعبق أمسية جميلة. لا أذكر أني رأيت أحلامًا، بل أذكر أنني استيقظت مرارًا وتكرارًا، وكأنني أترقب بلهفة انبلاج الصباح، لأجد أن الظلام لا يزال مخيمًا وأن خشب السقف يتصدع بود وكأنه يهمس بأسرار دفينة. أخيرًا، أزحت الستار عن النافذة، فبدت أمامي أشجار هذا البيت مغمورة بشظايا النور الممتد بفتور أبيض على تقوسات التلال الرمادية، كان كل واحد منا سابحًا في عالمه الخاص. هما لا يعلمان ما الذي أفعله بالورق بين يدي، ويعجبني صمتهما الرقيق، فكلماتهما لا تبعث في نفسي سوى إشارات روحانية. فتحت النافذة، فتسلل الهواء البارد إلى أعماق قلبي. بدأنا نتهيأ للخروج على أصوات الأشياء هنا، فحتى فرشاة الأسنان تتحرك بخجل وحياء. خرجنا والبرودة مستقرة في الشارع، وشاهدنا قرويات على وجوههن بقايا حلم لم يكتمل بعد، يسرن بجوار شلال يقاوم انخفاض درجة الحرارة، تتسلل مياهه بصعوبة بالغة بين الأحجار، التي تمثل كل صخرة فيها نظرة عين. انبعثت الشمس بخجل بعد برهة من الزمن من وراء قمم الجبال، بهالة دافئة. لم يكن أمامي في تلك اللحظة سوى الشعور بالتباين الشاسع بين دفء الشتاء وبرودة الوداع، فليس لي سوى يوم واحد لوداع هذه القرية وأسرتي، من جديد يغرس التفكير في هذا الأمر شوكة في القلب تنمو كالفطر وتتزايد وتتداخل مع الذكريات الجميلة. لا أستطيع كبح جماح هذا الشعور أو حتى الابتعاد عنه بجسدي، يظل هذا الإحساس واقفًا في طريقي كلما اقترب موعد الرحيل، كجبل جليدي غاص تحت سطح البحر منذ ملايين السنين، يعود للظهور مجددًا عند أدنى هزة أرضية مفاجئة؛ هكذا خلقني الله، في دمي وفاء للحظات الجميلة وفي عظامي أنين دائم للفرحة الهاربة، ولا توجد قوة على وجه الأرض تجبرني على محبة من لا أحب وكراهية ما لا أكره. قضينا بعض الوقت من النهار في مزرعة صديق لنا، نتكئ على السور الخشبي للمزرعة ونسرق لحظات من هذا الصباح البارد الجميل، نتبادل الأحاديث تحت مظلة من مشاعر الذكريات الثمينة، يساعدنا في ذلك نور وسناء ما قبل الظهيرة، كان الحديث ممتعًا كالمعتاد؛ فكل منا يستيقظ تمامًا على عبير القهوة وأغاني «آن ماري» التي تجمعنا وتفرقنا وتعبث بأشواقنا كما تشاء. لقد أحببت نفسي حتى عندما ضحك ابن زميلي على طريقتي في الكلام التي لا تشبه اللهجة المحلية، كان النور الشتوي يغمر جدران البيوت القروية ويتمدد كالرسومات الصغيرة، وينتشر بخيوطه ليظلل أعماق روحي كأنه صوت كمان يطل من شرفة أندلسية في زقاق هادئ في فيلم قديم. تهب نسمة دافئة منعشة هذا الصباح تحتضن الجميع، وقطع من الغيوم الرقيقة تزين السماء. كنت شاردًا في كتابة وصية للزمان أن يجد طريقه نحو صدري ليختبئ على هيئة زورق ويقيم هناك، وأن يحتفظ لنفسه بكل هذه البجعات المبللة على ضفاف الذاكرة. بعد لحظات قليلة، اختفى نصف قرص الشمس، وتسللت السكينة الهادئة إلى الهواء، وعاد للعين مشهد غبار الشتاء من جديد. على المقعد الجلدي في السيارة التي تقلني إلى المطار، انطويت على نفسي، كنت أتأمل البيوت وهي تضيء مصابيحها المسائية.. نافذة.. اثنتان.. ثلاث.. وأتحسس النار بين الأشجار البعيدة وهي تشتعل، لأركض مرة أخرى مع بقية خيول عباد الله الجامحة على صفحات الزمان باتجاه السنابل الذهبية!.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة